فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى}.
في الكلام حذف؛ أي فاستجاب الله دعاءه فقال: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة.
الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوة.
الثالث: أن يفرد بتسميته؛ وقد تقدّم معنى تسميته بيحيى في (آل عمران).
وقال مقاتل: سماه يحيى لأنه حَيِي بين أب شيخ وأم عجوز؛ وهذا فيه نظر؛ لما تقدم من أن امرأته كانت عقيمًا لا تلد.
والله أعلم.
قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} أي لم نسمّ أحدًا قبل يحيى بهذا الاسم؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي.
ومَنَّ عليه تعالى بأن لم يَكِل تسميته إلى الأبوين.
وقال مجاهد وغيره: {سَمِيًّا} معناه مثلًا ونظيرًا، وهو مثل قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] معناه مثلًا ونظيرًا وهذا كأنه من المساماة والسموّ؛ وهذا فيه بعد؛ لأنه لا يفضّل على إبراهيم وموسى؛ اللهم إلا أن يفضّل في خاص كالسؤدد والحصر حسب ما تقدّم بيانه (في آل عمران).
وقال ابن عباس أيضًا: معناه لم تلد العواقر مثله ولدًا.
وقيل: إن الله تعالى اشترط القَبْل، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السُّنُع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل:
سُنُعُ الأسَامِي مُسْبِلِي أُزُر ** حُمْرٍ تَمَسُّ الأرضَ بالهُدبِ

وقال رؤبة للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه: أنا ابن العَجَّاج؛ فقال: قَصَّرتَ وعَرَّفتَ.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدًا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل: غير هذا مما تقدّم في (آل عمران) بيانه.
{وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف؛ ومثله العُسِي؛ قال الأصمعيّ: عَسَا الشيءُ يَعسُ عُسوًّا وعَسَاء ممدود أي يَبِس وصَلُب، وقد عسا الشيخُ يَعسو عُسِيّا وَلَّى وكَبِرَ مثل عَتَا؛ يقال: عَتَا الشيخُ يَعتو عُتيًا وعِتيًّا كبر وولّى، وعتوت يا فلان تعتو عتوًا وعتِيًا.
والأصل عتوّ لأنه من ذوات الواو، فأبدلوا من الواو ياء؛ لأنها أختها وهي أخفّ منها، والآيات على الياءات، ومن قال: {عِتِيًّا} كره الضمة مع الكسرة والياء؛ وقال الشاعر:
إنما يُعذَرُ الوليدُ ولا يُعْذَرُ ** من كان في الزّمان عِتِيَّا

وقرأ ابن عباس: {عُسِيًّا} وهو كذلك في مصحف أبيّ.
وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص {عِتِيا} بكسر العين وكذلك {جِثيا} و{صِلِيا} حيث كن.
وضم حفص {بُكِيًّا} خاصة، وكذلك الباقون في الجميع، وهما لغتان. وقيل: {عِتيا} قَسِيّا؛ يقال: ملك عاتٍ إذا كان قاسي القلب.
قوله تعالى: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي قال له الملَك {كذلك قال ربك} والكاف في موضع رفع؛ أي الأمر كذلك؛ أي كما قيل لك: {هو عليّ هين}. قال الفراء: خَلْقه عليّ هيِّن. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ} أي من قبل يحيى. وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين {وَقَدْ خَلَقْنَاكَ}. بنون وألف بالجمع على التعظيم. والقراءة الأولى أشبه بالسواد.
{وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئًا موجودًا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً} طلب آية على حملها بعد بشارة الملائكة إياه، وبعد قول الله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} زيادة طمأنينة؛ أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان؛ لأن إبليس أوهمه ذلك. قاله الضحاك وهو معنى قول السدي؛ وهذا فيه نظر لإخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدّم في (آل عمران). اهـ.

.قال أبو حيان:

{يا زكريا} أي قيل له بإثر الدعاء.
وقيل: رزقه بعد أربعين سنة من دعائه.
وقيل: بعد ستين والمنادي والمبشر زكرياء هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى: {فنادته الملائكة} الآية والغلام الولد الذكر، وقد يقال للأثنى غلامة كما قال:
تهان لها الغلامة والغلام

والظاهر أن {يحيى} ليس عربيًا لأنه لم تكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة، وإن كان عربيًا فيكون مسمى بالفعل كيعمر ويعيش قد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ. وعلى أنه عربي.
فقيل: سمي بذلك لأنه يحيى بالحكمة والعفة.
وقيل: يحيى بهدايته وإشاده خلق كثير.
وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء.
وقيل: لأنه يعمر زمنًا طويلًا.
وقيل: لأنه حيي بين شيخ كبير وأمّ عاقر.
وقيل: لأنه حيي به عقر أمه وكانت لا تلد.
وقال ابن عباس وقتادة والسدّي وابن أسلم: لم نسم قبله أحدًا بيحيى.
قال الزمخشري: وهذا شاهد على أن الأسامي الشنع جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النفر، حتى قال القائل في مدح قوم:
شنع الأسامي مسبلي أزر ** حمر تمس الأرض بالهدب

وقال رؤبة للنسابة البكري: وقد سأله عن نسبه أنا ابن العجاج فقال: قصرت وعرفت انتهى. وقيل للصلت بن عطاء: كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك، فقال: كنت غريب الدار غريب الأسم خفيف الحزم شحيحًا بالاشلاء. فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم إذ كان اسمه الصلت، وقال مجاهد وغيره {سميًا} أي مثلًا ونظيرًا وكأنه من المساماة والسموّ، قال ابن عطية: وهذا فيه بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى، وقال ابن عباس أيضًا لم تلد العواقر مثله.
قال الزمخشري: وإنما قيل للمثل سمّي لأن كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير فكل واحد منهما سَمِي لصاحبه. وقيل: لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر وأنه كان حصورًا انتهى.
و{أنّى} بمعنى كيف: وتقدم الكلام عليها في قوله: {قال رب أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} في آل عمران والعتيّ المبالغة في الكبر. ويبس العود.
وقرأ أبو بحرية وابن أبي ليلى والأعمش وحمزة والكسائي {عتيًا} بكسر العين وباقي السبعة بالضم وعبد الله بفتح العين وصاد صليًا جعلهما مصدرين كالعجيج والرحيل، وفي الضم هما كذلك إلاّ أنهما على فعول. وعن عبد الله ومجاهد عسيًا بضم العين والسين كمسورة. وحكاها الداني عن ابن عباس وحكاها الزمخشري عن أُبيّ ومجاهد يقال عتا العود وعسا يبس وجسا.
{قال كذلك} أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ {قال ربك} فالكاف رفع أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره {هو عليّ هين} ونحوه {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} وقرأ الحسن {وهو عليّ هين} ولا يخرج هذا إلاّ على الوجه الأول أي الأمر كما قلت، وهو عليّ ذلك يهون، ووجه آخر وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله لا إلى قول زكرياء وقال: محذوف في كلتا القراءتين أي قال: {هو عليّ هين} وإن شئت لم تنوه لأن الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق قاله الزمخشري: وقال ابن عطية وقوله: {قال كذلك} قيل إن المعنى قال له الملك {كذلك} فليكن الوجود كما قيل لك {قال ربك} خلق الغلام {عليّ هين} أي غير بدع وكما خلقتك قبل وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن.
وقال الطبري: معنى قوله: {كذلك} أي الأمر أن اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبر هو كذلك ولكن {قال ربك} والمعنى عندي قال الملك {كذلك} أي على هذه الحال {قال ربك هو عليّ هين} انتهى.
وقرأ الحسن {هو عليّ هين} بكسر الياء.
وقد أنشدوا قول النابغة:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ** لوالده ليست بذات عقارب

بكسر ياء المتكلم وكسرها شبيه بقراءة حمزة {وما أنتم بمصرخي} بكسر الياء.
وقرأ الجمهور: {وقد خلقتك} بتاء المتكلم.
وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي {خلقناك} بنون العظمة {ولم تك شيئًا} أي شيئًا موجودًا.
وقال الزمخشري: {شيئًا} لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئًا يعتد به كقولهم: عجبت من لا شيء إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَا زَكَرِيَّا} على إرادة القولِ أي قال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا} {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} لكن لا بأن يخاطِبه عليه الصلاة والسلام بذلك بالذات، بل بواسطة الملَك على أن يحكيَ له عليه الصلاة والسلام هذه العبارةَ عنه عز وجل على نهج قوله تعالى: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ} الآية، وقد مر تحقيقُه في سورة آلى عمران، وهذا جوابٌ لندائه عليه الصلاة والسلام ووعدٌ بإجابة دعائِه، لكن لا كما هو المتبادرُ من قوله تعالى: {فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى}.. إلخ، بل بعضًا حسبما تقتضيه المشيئةُ الإلهية المبنية على الحِكَم البالغة فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا مستجابي الدعوةِ لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعواتِ، ألا يرى إلى دعوة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام في حق أبيه وإلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: «وسألته أن لا يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعض فمنعنيها» وقد كان من قضائه عز وعلا أن يهبَه يحيى نبيًا مرضيًا ولا يرثه، فاستجيب دعاؤُه في الأول دون الثاني حيث قتل قبلَ موت أبيه عليهما الصلاة والسلام على ما هو المشهورُ، وقيل: بقي بعده برهةً فلا إشكال حينئذ، وفي تعيين اسمِه عليه الصلاة والسلام تأكيدٌ للوعد وتشريفٌ له عليه الصلاة والسلام، وفي تخصيصه به عليه السلام حسبما يُعرب عنه قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} أي شريكًا له في الاسم حيث لم يُسمَّ أحدٌ قبله بيحيى مزيدُ تشريفٍ وتفخيم له عليه الصلاة والسلام فإن التسميةَ بالأسامي البديعة الممتازة عن أسماء سائرِ الناس تنويهٌ بالمسمّى لا محالة، وقيل: سميًّا شبيهًا في الفضل والكمالِ كما في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فإن المتشاركين في الوصف بمنزلة المتشاركين في الاسم، قالوا: لم يكن له عليه الصلاة والسلام مِثْلٌ في أنه لم يعصِ الله تعالى ولم يهُمَّ بمعصية قط وأنه ولد من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر وأنه كان حَصورًا، فيكون هذا إجمالًا لما نزل بعده من قوله تعالى: {مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مّنَ الله وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ الصالحين} والأظهرُ أنه اسمٌ أعجميٌّ وإن كان عربيًا فهو منقول عن الفعل كيعمَرَ ويَعيشَ، قيل: سمي به لأنه حيِيَ به رحِمُ أمِّه أو حيِيَ دينُ الله تعالى بدعوته. {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل: فماذا قال عليه الصلاة والسلام حينئذ: فقيل: قال: {رَبّ} ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابِه تعالى إليه بتوسط الملَك، للمبالغة في التضرع، والمناجاة والجِدِّ في التبتل إليه تعالى، والاحترازِ عما عسى يُوهم خطابُه للملك من توهُّم أن علمَه تعالى بما يصدُر عنه متوقِّفٌ على توسطه، كما أن علمَ البشرِ بما يصدر عنه سبحانه متوقِّفٌ على ذلك في عامة الأوقات {أنى يَكُونُ لِي غلام} كلمة أنى بمعنى كيف أو من أين، وكان إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجار على الفاعل لما مر مرارًا من الاعتناء بما قدم والتشويقِ إلى ما أُخّر، أي كيف أو من أين يحدث لي غلامٌ؟ ويجوز أن تتعلق اللامُ بمحذوف وقع حال من غلامٌ إذ لو تأخر لكان صفةً له أي أنى يحدث كائنًا لي غلام، أو ناقصةٌ اسمُها ظاهرٌ وخبرُها إما أنى ولي متعلقٌ بمحذوف كما مر، أو هو الخبر وأنى نصبٌ على الظرفية، وقوله تعالى: {وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} حالٌ منه مؤكدةٌ للاستبعاد إثرَ تأكيد، أي كانت امرأتي عاقرًا لم تلِدْ في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوزٌ وقد بلغتُ أنا من أجل كِبَر السنِّ جساوة وقحولًا في المفاصل والعِظام، أو بلغتُ من مدارج الكِبَر ومراتبه ما يسمى عِتيًّا من عتا يعتو وأصله عُتُووٌ كقعود فاستُثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ثم قلبت الثانية أيضًا لاجتماع الواو والياء وسبْقِ إحداهما بالسكون وكُسرت العينُ إتباعًا لها لما بعدها، وقرئ بضمها. ولعل البداءة هاهنا بذكر حال امرأتِه على عكس ما في سورة آل عمرانَ لِما أنه قد ذُكر حالُه في تضاعيف دعائِه وإنما المذكورُ هاهنا بلوغُه أقصى مراتبِ الكِبَر تتمةً لما ذكر قبل، وأما هنالك فلم يسبِقْ في الدعاء ذكرُ حاله فلذلك قدّمه على ذكر حال امرأتِه لِما أن المسارعةَ إلى بيان قصورِ شأنه أنسبُ، وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائِه بذلك وقوةِ يقينه بقدرة الله لاسيما بعد مشاهدتِه للشواهد المذكورة في سورة آلِ عمران استعظامًا لقدرة الله تعالى وتعجيبًا منها واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محضِ لطفِ الله عز وعلا وفضله مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلةِ عادة لا استبعادًا له. وقيل: إنما قاله ليُجابَ بما أجيب به فيزدادَ المؤمنون إيقانًا ويرتدعَ المبطلون، وقيل: كان ذلك بطريق الاستبعادِ حيث كان بين الدعاء والبِشارة ستون سنة وكان قد نسِيَ دعاءه، وهو بعيد.
{قَالَ} استئناف كما مر مبنيٌّ على سؤال نشأ مما سلف، والكافُ في قوله تعالى: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} مقحمةٌ كما في: مثلُك لا يبخل محلُّها إما النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيُّ لقال الثاني وذلك إشارةٌ إلى مصدره الذي هو عبارةٌ عن الوعد السابقِ لا إلى قول آخرَ شُبِّه هذا به، وقد مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} وقوله تعالى: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} جملةٌ مقرِّرةٌ للوعد المذكورِ دالةٌ على إنجازه داخلةٌ في حيز قال الأول، كأنه قيل: قال الله عز وجل مثلَ ذلك القولِ البديع، قلت: أي مثلَ ذلك الوعدِ الخارقِ للعادة وعدتُ وهو علي خاصةً هيِّنٌ وإن كان في العادة مستحيلًا، وقرئ {وهو علي هينٌ} فالجملة حينئذ حالٌ من ربك والياء عبارةٌ عن ضميره كما ستعرفه أو اعتراضٌ، وعلى كل حالٍ فهي مؤكدةٌ ومقرِّرةٌ لما قبلها، ثم أُخرج القولُ الثاني مُخرجَ الالتفات جريًا على سنن الكبرياء لتربية المهابةِ وإدخال الروعةِ، كقول الخلفاء: أميرُ المؤمنين يرسم لك مكان أنا أرسم، أُسند إلى اسم الربِّ المضاف إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريفًا له وإشعارًا بعلة الحُكم، فإن تذكيرَ جرَيانِ أحكامِ ربوبيتِه تعالى عليه عليه الصلاة والسلام من إيجاده من العدم وتصريفِه في أطوار الخلقِ من حال إلى حال شيئًا فشيئًا إلى أن يبلغ كمالَه اللائقَ به، مما يقلَع أساسَ استبعاده عليه الصلاة والسلام لحصول الموعودِ ويورثه عليه الصلاة والسلام الاطمئنانَ بإنجازه لا محالة، ثم التُفت من ضمير الغائبِ العائدِ إلى الرب إلى ياء العظمةِ إيذانًا بأن مدارَ كونه هيّنًا عليه سبحانه هو القدرةُ الذاتيةُ لا ربوبيتُه تعالى له عليه الصلاة والسلام خاصة وتمهيدًا لما يعقُبه، وقيل: ذلك إشارةٌ إلى مبهم يفسّره قولُه تعالى: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} على طريقة قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} ولا يخرج هذا الوجهُ على القراءة بالواو لأنها لا تدخل بين المفسِّر والمفسَّر. وإما الرفع على أنه مبتدأ محذوفٌ وذلك إشارةٌ إلى ما تقدم من وعده تعالى، أي قال عز وعلا: الأمرُ كما وعدتُ وهو واقعٌ لا محالة، وقوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ}.. إلخ، استئنافٌ مقرِّر لمضمونه والجملةُ المحكية على القراءة الثانية معطوفةٌ على المحكية الأولى، أو حالٌ من المستكن في الجار والمجرور أيًا ما كان، فتوسيطُ قال بينهما مُشعرٌ بمزيد الاعتناءِ بكل منهما والكلامُ في إسناد القولِ إلى الرب ثم الالتفاتِ إلى التكلم كالذي مر آنفًا، وقيل: ذلك إشارةٌ إلى ما قاله زكريا عليه الصلاة والسلام، أي قال تعالى: (الأمرُ كما قلت) تصديقًا له فيما حكاه من الحالة المباينةِ للولادة في نفسه وفي امرأته، وقوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ}.. إلخ، استئنافٌ مَسوقٌ لإزالة استبعادِه بعد تقريره، أي قال تعالى: (هو مع بعده في نفسه عليّ هيّنٌ) والقراءة الثانية أَدخلُ في إفادة هذا المعنى على أن الواو للعطف، وأما جعلُها للحال فمُخِلٌّ بسِداد المعنى لأن مآلَه تقريرُ صعوبته حال سهولتِه عليه تعالى مع أن المقصودَ بيانُ سهولتِه عليه سبحانه مع صعوبته في نفسه، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} جملةٌ مستأنَفةٌ مقررة لما قبلها، والمرادُ به ابتداءُ خلق البشرِ إذ هو الواقعُ إثرَ العدم المحضِ لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالدِ المعتادِ، وإنما لم يُنسَبْ ذلك إلى آدمَ عليه الصلاة والسلام وهو المخلوقُ من العدم حقيقةً بأن يقال: وقد خلقتُ أباك أو آدمَ من قبل ولم يك شيئًا مع كفايته في إزالة الاستبعادِ بقياس حالِ ما بُشّر به على حاله عليه الصلاة والسلام لتأكيد الاحتجاجِ وتوضيح منهاجِ القياس حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه الصلاة والسلام من العدم، إذ لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورةً على نفسه به كانت أنموذجًا منطويًا على فطرية سائر آحادِ الجنس انطواءً إجماليًا مستتبعًا لجريان آثارِها على الكل، فكان إبداعُه عليه الصلاة والسلام على ذلك الوجه إبداعًا لكل أحد من فروعه كذلك، ولمّا كان خَلقُه عليه الصلاة والسلام على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريته أبدعَ من أن يكون ذلك مقصورًا على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخلقِ المذكور إليه وأدلَّ على عظم قدرتِه تعالى وكمال علمِه وحكمتِه، وكان عدمُ زكريا حينئذ أظهرَ عنده وأجلى وكان حالُه أولى بأن يكون معيارًا لحال ما بشر به نُسب الخلقُ المذكور إليه، كما نسب الخَلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} توفيةً لمقام الامتنان حقَّه، فكأنه قيل: وقد خلقتُك من قبل في تضاعيف خلقِ آدمِ ولم تكن إذ ذاك شيئًا أصلًا بل عدمًا بحتًا ونفيًا صِرْفًا. هذا وأما حملُ الشيء على المعتدّ به أي ولم تكن شيئًا معتدًا به فيأباه المقام ويردّه نظمُ الكلام، وقرئ {خلقناك}. اهـ.